كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} فأخبر عمن هو أقرب إلى المحتضر من الناس الذين عنده في هذه الحال. وذات الرب سبحانه وتعالى إذا قيل: هي في مكان، أو قيل: قريبة من كل موجود، لا يختص بهذا الزمان والمكان والأحوال، فلا يكون أقرب إلى شيء من شيء، ولا يجوز أن يراد قرب الربّ الخاص، كما في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} فإن ذاك إنما هو قربه إلى من دعاه أو عبَده، وهذا المحتضر قد يكون كافرًا وفاجرًا، أو مؤمنًا ومقربًا؛ ولهذا قال تعالى: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 88- 94]. ومعلوم أن مثل هذا المكذب لا يخصُّه الربُّ بقُرب منه دون من حوله، وقد يكون حوله قوم مؤمنون، وإنما هم الملائكة الذين يحضرون عند المؤمن والكافر، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50]، وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقولونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]، وقال تعالى: {حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]، وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11].
ومما يدل على ذلك أنه ذكره بصيغة الجمع فقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وهذا كقوله سبحانه: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 3]، وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القرآن} [يوسف: 3]، وقال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقرآنَهُ فَإِذَا قرأنَاهُ فَاتَّبِعْ قرآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17- 19]، فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله تعالى في كتابه دلَّ على أن المراد أنه سبحانه بجنوده وأعوانه من الملائكة؛ فإن صيغة: نحن يقولها المتبوع المطاع المعظَّم الذي له جنود يتبعون أمره، وليس لأحد جند يطيعونه كطاعة الملائكة ربهم، وهو خالقهم وربُّهم؛ فهو سبحانه العالم بما توسوس به نفسه، وملائكته تعلم؛ فكان لفظ: نحن هنا هو المناسب، وكذلك قوله: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} فإنه سبحانه يعلم ذلك، وملائكته يعلمون ذلك، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا هَمَّ العبدُ بحسَنةٍ كُتبت له حسنة، فإن عمِلها كتبت له عشرُ حسنات، وإذا هَمَّ بسيِّئةٍ لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت سيئة واحدة، وإن تركها لله كتبت له حسنة». فالملك يعلم ما يهم به العبد من حسنة وسيئة، وليس ذلك من علمهم الغيب الذي اختص الله به.
ثم قال: وقوله: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، يقتضي أنه سبحانه وجنده الموكلين بذلك يعلمون ما توسوس به للعبد نفسُه، كما قال: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، فهو يسمع، ومن يشاء من ملائكته.
وأما الكتابة فرسله يكتبون كما قال هاهنا:
{مَا يَلْفِظُ مِن قول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]، وأخبر بالكتابة: نحن؛ لأن جنده يكتبون بأمره، وفصَّل في تلك الآية بين السماع والكتابة؛ لأنه يسمع بنفسه.
وأما كتابة الأعمال فتكون بأمره، والملائكة يكتبون، فقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} مثل قوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} لما كانت ملائكته متقربين إلى العبد بأمره، كما كانوا كاتبين عمله بأمره، فإن ذلك قربه من كل أحد بتوسط الملائكة، كتكليمه عبده بتوسط الرسل، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} [الشورى: 51]، فهذا تكليمه لجميع عباده بواسطة الرسل، وذاك قربه إليهم عند الاحتضار، وعند الأقوال الباطنة في النفس والظاهرة. انتهى كلامه رحمه الله.
وقوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [17].
{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} أي: ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به. فـ: إذْ ظرف لأقرب، وفيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين، فإنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما، لكنه لحكمة اقتضته، وهي إلزام الحُجَّة في الأخرى، والتقدم إلى ما يرغبه ويرهبه في الأولى.
وقال القاشاني: بيَّن تعالى بهذه الآية أقربيَّته لينتفي القرب بمعنى الاتصال والمقارنة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: هو مع كل شيء لا بمقارنة؛ إذ الشيء به ذلك الشيء، وبدونه ليس شيئًا حتى يقارنه. أي: يعلم حديث نفسه الذي توسوس به نفسه وقت تلقي المتلقيين، مع كونه أقرب إليه منهما. وإنما تلقيهما للحجة عليه، وإثبات الأقوال والأعمال في الصحائف النورية، للجزاء.
ثم قال: والمتلقي القاعد عن اليمين، وهو القوة العاقلة العملية المنتقشة بصور الأعمال الخيرية المرتسمة بالأقوال الحسنة الصائبة؛ وإنما قعد عن يمينه لأن اليمين هي الجهة القوية الشريفة المباركة، وهي جهة النفس التي تلي الحق. والمتلقي القاعد عن الشمال هو القوة المتخيلة التي تنتقش بصور الأعمال البشرية البهيمية والسبعية، والآراء الشيطانية والوهمية، والأقوال الخبيثة الفاسدة؛ وإنما قعد عن الشمال لأن الشمال هي الجهة الضعيفة الخسيسة المشؤومة، وهي التي تلي البدن، ولأن الفطرة الإنسانية خيِّرة بالذات، لكونها من عالم الأنوار، مقتضية بذاتها وغريزتها الخيرات. والشرور إنما هي أمور عرضت لها من جهة البدن وآلاته وهيئاته، يستولي صاحب اليمين على صاحب الشمال، فكلما صدرت منه حسنة كتبها له في الحال، وإن صدرت منه سيئة منع صاحبَ الشمال من كتابتها في الحال انتظارًا للتسبيح، أي: التنزيه عن الغواشي البدنية والهيئات الطبيعية، بالرجوع إلى مقره الأصليّ وسنخه الحقيقيّ وحاله الغريزي؛ لينمحي أثر ذلك الأمر العارضيّ بالنور الأصليّ والاستغفار، أي: التنوُّر بالأنوار الروحية والتوجه إلى الحضرة الإلهية، لينمحي أثر تلك الظلمة العرضية بالنور الوارد كما روي «أن كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يساره، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرًا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب اليسار: دعهُ سبعَ ساعات، لعلَّه يسبِّح أو يستغفر». انتهى.
وقد كثر في كلام القاشاني رحمه الله تأويل المَلَك بالقوة الحاثة على الخير، والشيطان بالمغوية على الشر. وسبقه إليه الحكماء، قال بعض الحكماء: هذا الشيء الذي أودِع فينا ونسميه قوة وفكرًا، وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كُنهه، وروحٌ لا تُكتنه حقيقتها، لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكًا ويسمي أسبابه ملائكة، أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حجْر فيها على الناس، فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة، والسلطان النافذ والعلم الواسع؟.
وقد سبق الغزاليُّ إلى هذا المعنى وعبَّر عنه بالسبب، وقال: إنه يسمَّى ملَكا، فإنه في شرح عجائب القلب من كتاب (الإحياء) بعد ما قسم الخواطر إلى محمود ومذموم، قال: وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان: فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكًا، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانًا. إلخ. والبحث كله غُرر، تجدر مراجعته.
لطيفة:
{قَعِيدٌ} كجليس بمعنى مجالس، لفظًا ومعنى؛ وإنما أفرِد رعايةً للفواصل، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، كقوله:
فإني وقيّارٌ بها لغريبُ

وقيل: يطلق فعيل للواحد والمتعدد، كقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وضعف بأنه ليس على إطلاقه، بل إذا كان فعيل بمعنى مفعول بشروطه، وهذا بمعنى فاعل، فلا يصح فيه ذلك إلا بطريق الحمل على فعيل بمعنى مفعول.
{مَا يَلْفِظُ مِن قول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [18].
{مَا يَلْفِظُ مِن قول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ} أي: ملك يرقِب عمله، {عَتِيدٌ} أي: حاضر. ولمَّا ذكر استبعادهم للبعث وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه، أعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب، ونبَّه على اقترابه بلفظ الماضي، فقال سبحانه: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [19].
{وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} أي: شدَّتُه المحيِّرة الشاغلة للحواس، المذهلة للعقل {بِالْحَقِّ} أي: بالموعود الحق والأمرِ المحقَّق، وهو الموت؛ فالباء للملابسة. أو بالموعود الحق من أمر الآخرة، والثواب والعقاب الذي غفل عنه، فالباء للتعدية، أي: أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر، وهي أحوالها الباطنة، وأظهرتها عليه.
قال الشهاب: السكرة استعيرت للشدة، ووجه الشبه بينهما أن كلًا منهما مذهِب للعقل، فالاستعارة تصريحية تحقيقية. ويجوز أن يشبه الموت بالشراب على طريق الاستعارة المكنية. وإثبات السكرة لها تخييل.
{ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي: تَفرّ. والجملة على تقدير القول، أي: يقال له وقت الموت: ذلك الأمر الذي رأيته هو الذي كنت منه تحيد في حياتك، فلم ينفعك الهرب والفرار.
وهل المشار إليه بذلك، الحق أو الموت؟ قال الطيبي: إن اتصل قوله: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} إلخ، بقوله: {فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وما معه، فالمشار إليه بذلك الحق، والخطاب للفاجر، أي: جاءك أيها الفاجر الحقُّ الذي أنكرته، وإن اتصل بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ} إلخ، فالمشار إليه الموت، والالتفات لا يفارق الوجهين، والثاني هو المناسب، لقوله: {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} بعده، وتفصيله {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 24]، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 31] انتهى.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [20-21].
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} يعني: نفخة البعث {ذَلِكَ} أي: النفخ {يَوْمُ الْوَعِيدِ} أي: وقت تحقق الوعيد بشهود ما قدّم من الأعمال وما أخَّر.
{وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} قال ابن جرير: أي: سائق يسوقها إلى الله، وشاهد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير أو شر. وهل هما ملكان، أو ملك جامع للوصفين، أو الأول ملك، والثاني الإنسان نفسه يشهد على نفسه، أو سائق من أعمالها، إلى مكان جزائها، وشهيد من أجزائها؟ أقوال: وقال القاشاني: أي: سائق من عمله، وشهيد من عمله؛ لأن كل أحد ينجذب إلى محل نظره، وما اختاره بعمله. والميل الذي يسوقه إلى ذلك الشيء إنما نشأ من شعوره بذلك الشيء وحكمه بملائمته له، سواء كان أمرًا سفليًا جسمانيًا بعثه عليه هواه وأغراه عليه وهمُه وقوَّاه، أو أمرًا عُلويًا روحانيًا بعثه عليه عقله ومحبَّتُه الروحانية وحرَّضه عليه قلبُه وفطرته الأصلية. فالعلم الغالب عليه سائقه إلى معلومه، وشاهده بالميل الغالب عليه، والحبُّ الراسخ فيه والعمل المكتوب في صحيفته يشهد عليه بظهوره على صور أعضائه وجوارحه، وينطق عليه كتابه بالحق، وجوارحه بهيئات أعضائه المتشكلة بأعماله. انتهى.
{لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [22].
{لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} في المخاطب بهذا، أقوالُ ثلاثة:
أحدها: أنه النبي صلى الله عليه وسلم، أتى بهذه الجملة معترضة في خلال النبأ الأُخروي، تنويهًا بمِنَّة الإعلام بذلك، والتعريف به، ثم شدة نفوذ البصر به والوقوف على غوامضه بعد خلوِّ الذهن عنه رأسًا. والمعنى: لقد كنت في غفلة من هذا القرآن قبل أن يوحى إليك، فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك؛ فبصرك اليوم حديدٌ نافذ قوي، ترَى ما لا يَرون، وتعلم مالا يعلمون. ومثله آية {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52].
وثانيها: أنه الكافر، وأن الكلام على تقدير القول، أي: يقال له: لقد كنت في غفلة من هذا الذي عاينت اليوم من الأهوال، فكشفنا عنك غطاءك بأن جلينا لك ذلك، وأظهرناه لعينيك حتى رأيته وعاينته، فزالت الغفلة عنك. ومثله عن الكفار آية: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38]، وآية: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة: 12].
وثالثها: أنه الإنسان مطلَقًا، لقوله: {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ}، والمقصود أنه كشف الغطاء عن البَرَََِّ والفاجر، ورأى كل ما يصير إليه.
وعوَّل ابن جرير في الأولوية على الثالث.
قال الزمخشري: جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى بها جسده كله، أو غشاوة غطى بها عينيه، فهو لا يبصر شيئًا، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت الغفلة عنه وغطاؤها، فيبصر ما لم يبصره من الحق.
وقال القاشاني في تأويل الآية: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا} لاحتجابك بالحس والمحسوسات وذهولك عنه؛ لاشتغالك بالظاهر عن الباطن {فَكَشَفْنَا عَنكَ} بالموت {غِطَاءكَ} المادي الجسماني الذي احتجبت به {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أي: إدراكك لما ذهلتَ عنه ولم تصدِّق بوجوده، قويّ تعاينه. انتهى.
{وَقال قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [23].
{وَقال قَرِينُهُ} أي: قرين هذا الإنسان الذي جيء به يوم القيامة معه سائق وشهيد، وهو إما الملك الموكل عليه في الدنيا لكتابة أعماله، وهو الرقيب المتقدِّم، أو الشيطان الذي قيِّض له مقارنًا يغويه، وهو الأظهر- كما اعتمده الزمخشري- لآية: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، ويشهد له قوله تعالى: {قال قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} [ق: 27]، {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} أي: هذا شيء لدي حاضر معدٌّ محفوظ.
والإشارة على الأول لما في صحفه، وعلى الثاني للشخص نفسه، أي: هذا ما لدي عتيد لجهنم هيَّأته بإغوائي لها.
وقال القاشاني:
{وَقال قَرِينُهُ} أي: من شيطان الوهْم الذي غرَّه بالظواهر وحجبَهُ عن البواطن: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} مهيَّأ لجهنم، أي: ظهر تسخير الوهم إياه في التوجه إلى الجهة السفلية، وأنه ملَكه واستعبده في طلب اللذات البدنية، حتى هيأه لجهنم في قعر الطبيعة. انتهى.
{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [24].
{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد، على أنهما ملكان، لا ملك جامع للوصفين، أو لملكين من خزنة النار، أو لواحد؛ وتثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل، وتكريره على أنه أصله: ألق، ألقِ، ثم حذف الفعل الثاني، وأبقى ضميره مع الفعل الأول، فثنى الضمير للدلالة على ما ذكر، أو الألف بدل من نون التوكيد؛ لأنها تبدل ألفًا في الوقف، فأجرى الوصل مجراه، أوجه ذكروها.